المقالة الخامسة حول الشعور : هل الشعور كافٍ لمعرفة كل حياتنا النفسية ؟ الجدلية .
I – طرح المشكلة : ان التعقيد الذي تتميز به الحياة النفسية ، جعلها تحظى باهتمام علماء النفس القدامى والمعاصرون ، فحاولوا دراستها وتفسير الكثير من مظاهرها . فاعتقد البعض منهم ان الشعور هو الاداة الوحيدة التي تمكننا من معرفة الحياة النفسية ، فهل يمكن التسليم بهذا الرأي ؟ او بمعنى آخر : هل معرفتنا لحياتنا النفسية متوقفة على الشعور بها ؟
II – محاولة حل المشكلة :
1-أ- عرض الاطروحة : يذهب انصارعلم النفس التقليدي من فلاسفة وعلماء ، الى الاعتقاد بأن الشعور هو أساس كل معرفة نفسية ، فيكفي ان يحلل المرء شعوره ليتعرف بشكلٍ واضح على كل ما يحدث في ذاته من احوال نفسية او ما يقوم به من افعال ، فالشعور والنفس مترادفان ، ومن ثـمّ فكل نشاط نفسي شعوري ، وما لا نشعر به فهو ليس من انفسنا ، ولعل من ابرز المدافعين عن هذا الموقف الفيلسوفان الفرنسيان " ديكارت " الذي يرى أنه : « لا توجد حياة أخرى خارج النفس الا الحياة الفيزيولوجية » ، وكذلك " مين دو بيران " الذي يؤكد على أنه : « لا توجد واقعة يمكن القول عنها انها معلومة دون الشعور بها » . وهـذا كله يعني ان الشعور هو اساس الحياة النفسية ، وهو الاداة الوحيدة لمعرفتها ، ولا وجود لما يسمى بـ " اللاشعور " .
1-ب- الحجة : ويعتمد انصار هذا الموقف على حجة مستمدة من " كوجيتو ديكارت " القائل : « أنا أفكر ، إذن أنا موجود » ، وهذا يعني ان الفكر دليل الوجود ، وان النفس البشرية لا تنقطع عن التفكير الا اذا انعم وجودها ، وان كل ما يحدث في الذات قابل للمعرفة ، والشعور قابل للمعرفة فهو موجود ، اما اللاشعور فهو غير قابل للمعرفة ومن ثـمّ فهو غير موجود .
اذن لا وجود لحياة نفسية لا نشعر بها ، فلا نستطيع ان نقول عن الانسان السّوي انه يشعر ببعض الاحوال ولا يشعر بأخرى مادامت الديمومة والاستمرار من خصائص الشعور .
ثـم إن القول بوجود نشاط نفسي لا نشعر به معناه وجود اللاشعور ، وهذا يتناقض مع حقيقة النفس القائمة على الشعور بها ، فلا يمكن الجمع بين النقيضين الشعور واللاشعـور في نفسٍ واحدة ، بحيث لا يمكن تصور عقل لا يعقل ونفس لا تشعر .
وأخيرا ، لو كان اللاشعور موجودا لكان قابلا للملاحظة ، لكننا لا نستطيع ملاحظته داخليا عن طريق الشعور ، لأننا لا نشعر به ، ولا ملاحظته خارجيا لأنه نفسي ، وماهو نفسي باطني وذاتي . وهذا يعني ان اللاشعور غير موجود ، وماهو موجود نقيضه وهو الشعور .
1-جـ- النقد : ولكن الملاحظة ليست دليلا على وجود الاشياء ، حيث يمكن ان نستدل على وجود الشئ من خلال آثاره ، فلا أحد يستطيع ملاحظة الجاذبية او التيار الكهربائي ، ورغم ذلك فاثارهما تجعلنا لا ننكر وجودهما .
ثم ان التسليم بأن الشعورهو اساس الحياة النفسية وهو الاداة الوحيدة لمعرفتها ، معناه جعل جزء من السلوك الانساني مبهما ومجهول الاسباب ، وفي ذلك تعطيل لمبدأ السببية ، الذي هو اساس العلوم .
2-أ- عرض نقيض الاطروحة : بخلاف ما سبق ، يذهب الكثير من انصار علم النفس المعاصر ، ان الشعور وحده ليس كافٍ لمعرفة كل خبايا النفس ومكنوناتها ، كون الحياة النفسية ليست شعورية فقط ، لذلك فالانسان لا يستطيع – في جميع الاحوال – ان يعي ويدرك اسباب سلوكه . ولقد دافع عن ذلك طبيب الاعصاب النمساوي ومؤسس مدرسة التحليل النفسي " سيغموند فرويد " الذي يرى أن : « اللاشعور فرضية لازمة ومشروعة .. مع وجود الادلة التي تثبت وجود اللاشعور » . فالشعور ليس هـو النفس كلها ، بل هناك جزء هام لا نتفطن – عادة – الى وجوده رغم تأثيره المباشر على سلوكاتنا وأفكارنا وانفعالاتنا ..
2-ب- الحجة : وما يؤكد ذلك ، أن معطيات الشعور ناقصة ولا يمكنه أن يعطي لنا معرفة كافية لكل ما يجري في حياتنا النفسية ، بحيث لا نستطيع من خلاله ان نعرف الكثير من أسباب المظاهرالسلوكية كالاحلام والنسيان وهفوات اللسان وزلات الاقلام .. فتلك المظاهر اللاشعورية لا يمكن معرفتها بمنهج الاستبطان ( التأمل الباطني ) القائم على الشعور ، بل نستدل على وجودها من خلال اثارها على السلوك . كما أثبت الطب النفسي أن الكثير من الامراض والعقد والاضطرابات النفسية يمكن علاجها بالرجوع الى الخبرات والاحداث ( كالصدمات والرغبات والغرائز .. ) المكبوتة في اللاشعور.
2جـ - النقد : لا شك ان مدرسة التحليل النفسي قد أبانت فعالية اللاشعور في الحياة النفسية ، لكن اللاشعور يبقى مجرد فرضية قد تصلح لتفسير بعض السلوكات ، غير أن المدرسة النفسية جعلتها حقيقة مؤكدة ، مما جعلها تحول مركز الثقل في الحياة النفسية من الشعور الى اللاشعور ، الامر الذي يجعل الانسان اشبه بالحيوان مسيّر بجملة من الغرائز والميول المكبوتة في اللاشعور.
3- التركيب : وهكذا يتجلى بوضوح ، أن الحياة النفسية كيان معقد يتداخل فيه ماهو شعوري بما هو لاشعوري ، أي انها بنية مركبة من الشعور واللاشعور ، فالشعور يمكننا من فهم الجانب الواعي من الحياة النفسية ، واللاشعور يمكننا من فهم الجانب اللاواعي منها .
III– حل المشكلة :وهكذا يتضح ، أن الانسان يعيش حياة نفسية ذات جانبين : جانب شعوري يُمكِننا ادراكه والاطلاع عليه من خلال الشعور ، وجانب لاشعوري لا يمكن الكشف عنه الا من خلال التحليل النفسي ، مما يجعلنا نقول أن الشعور وحده غير كافٍ لمعرفة كل ما يجري في حيتنا النفسية .
المقالة السادسة حول اللغة : دافع عن الاطروحة القائلة : " أن اللغة منفصلة عن الفكر وتعيقه " الاستقصاء بالوضع
I- طرح المشكلة : تعد اللغة بمثابة الوعاء الذي يصب فيه الفرد أفكاره ، ليبرزها من حيز الكتمان الى حيز التصريح . لكن البعض أعتقد ان اللغة تشكل عائقا للفكر ، على اعتبار أنها عاجزة عن إحتوائه والتعبير عنه ، مما يفترض تبني الاطروحة القائلة ان اللغة منفصلة عن الفكر وتعيقه ، ولكن كيف يمكن الدفاع عن هذه الاطروحة ؟
II- محاولة حل المشكلة :
1- أ - عرض الاطروحة كفكرة : يرى أنصار الاتجاه الثنائي ، أن هناك انفصال بين الفكر واللغة ، و أنه لا يوجد تناسب بين عالم الافكار وعالم الالفاظ ، حيث ان ما يملكه الفرد من أفكار و معان يفوق بكثير ما يملكه من الفاظ وكلمات ، مما يعني ان اللغة لا تستطيع ان تستوعب الفكر او تحتويه ، ومن ثــــمّ فهي عاجزة عن التبليغ او التعبير عن هذا الفكر .
1- ب - مسلمات الاطروحة : الفكر أسبق من اللغة و أوسع منها ، بحيث ان الانسان يفكر بعقله قبل ان يعبر بلسانه .
1- ج – الحجة : كثيرا ما يشعر الانسان بسيل من الخواطر والافكار تتزاحم في ذهنه ، لكنه يعجز عن التعبير عنها ، لانه لا يجد الا الفاظا محدودة لا تكفي لبيانها ، وعلى هذا الاساس كانت اللغة عاجزة عن إبراز المعاني المتولدة عن الفكر ابرزا تاما وكاملا ، يقول أبو حيان التوحيدي : " ليس في قوة اللغة ان تملك المعاني " ويقول برغسون : " اننا نملك افكارا اكثر مما نملك اصواتا "
- اللغة وُضعت اصلا للتعبير عما تواضع او اصطلح عليه المجتمع بهدف تحقيق التواصل وتبادل المنافع ، وبالتالي فهي لا تعبر الا على ما تعارف عليه الناس ( أي الناحية الاجتماعية للفكر ) ، ويبقى داخل كل فرد جوانب عميقة خاصة وذاتية من عواطف ومشاعر لا يستطيع التعبير عنها ، لذلك كانت اللغة عاجزة عن نقل ما نشعر به للآخرين ، يقول فاليري : أجمل الافكار ، تلك التي لا نستطيع التعبير عنها .
- إبتكار الانسان لوسائل التعبير بديلة عن اللغة كالرسم و الموسيقى ما يثبت عجز اللغة عن استيعاب الفكر و التعبير عنه .
2- تدعيم الاطروحة بحجج شخصية ( شكلا ومضمونا ) : تثبت التجربة الذاتية التي يعيشها كل انسان ، أننا كثيرا ما نعجز عن التعبير عن كل مشاعرنا وخواطرنا وافكارنا ، فنتوقف اثناء الحديث او الكتابة بحثا عن كلمة مناسبة لفكرة معينة ، أو نكرر القول : " يعجز اللسان عن التعبير " ، او نلجأ الى الدموع للتعبير عن انفعالاتنا ( كحالات الفرح الشديد ) ، ولو ذهبنا الى بلد اجنبي لا نتقن لغته ، فإن ذلك يعيق تبليغ افكارنا ، مما يثبت عدم وجود تناسب بين الفهم والتبليغ .
3- أ – عرض منطق خصوم الاطروحة : يرى انصار الاتجاه الاحادي ، أن هناك اتصال ووحدة بين الفكر واللغة ، وهما بمثابة وجهي العملة النقدية غير القابلة للتجزئة ، فاللغة والفكر شيئا واحدا ، بحيث لا توجد افكار بدون الفاظ تعبر عنها ، كما انه لا وجود لالفاظ لا تحمل أي فكرة او معنى . وعليه كانت اللغة فكر ناطق والفكر لغة صامتة ، على الاعتبار ان الانسان بشكل عام يفكر بلغته ويتكلم بفكره . كما أثبت علم النفس ان الطفل يولد صفحة بيضاء خالية من أي افكار و يبدأ في اكتسابها بموازاة مع تعلمه اللغة . وأخيرا ، فإن العجز التي توصف به اللغة قد لا يعود الى اللغة في حد ذاتها ، بل الى مستعملها الذي قد يكون فاقدا لثروة لغوية تمكنه من التعبير عن افكاره .
3- ب – نقد منطقهم : لكن ورغم ذلك ، فإن الانسان يشعر بعدم مسايرة اللغة للفكر ، فالادباء مثلا رغم امتلاكهم لثروة لغوية يعانون من مشكلة في التبليغ ، وعلى مستوى الواقع يشعر أغلب الناس بعدم التناسب بين الفكر واللغة .
III- حل المشكلة : وهكذا يتضح ان هناك شبه انفصال بين اللغة والفكر ، باعتبار ان الفكر اسبق واوسع من اللغة ، وان اللغة تقوم بدور سلبي بالنسبة له ، فهي تعيقه وتفقده حيويته ، مما يعني ان الاطروحة القائلة : " أن اللغة منفصلة عن الفكر وتعيقه " اطروحة صحيحة .
المقالة السابعة حول اللغة أيضا : السؤال : يقول هيبوليت : « إذا فكرنا بدون لغة ، فنحن لا نفكر » دافع عن الأطروحة التي يتضمنها القول . الاستفصاء بالوضع
i - طرح المشكل : اذا كانت اللغة اداة للفكر ، بحيث يستحيل ان يتم التفكير بدون لغة ؛ فكيف يمكن اثبات صحة هذه الفكرة ؟
ii - محاولة حل المشكل :
1-أ- عرض الموقف كفكرة : ان الفكر لا يمكن ان يكون له وجود دون لغة تعبر عنه ، إذ لا وجودلأفكار لا يمكن للغة ان تعبر عنا ، حيث أن هناك – حسب انصار الاتجاه الاحادي - تناسب بين الفكر واللغة ، ومعنى ذلك أن عالم الافكار يتناسب مع عالم الالفاظ ، أي ان معاني الافكارتتطابق مع دلالة الالفاظ ، فالفكر واللغة وجهان لعملة واحدة غير قابلة للتجزئة فـ« الفكر لغة صامتة ، واللغة فكر ناطق » .
1- ب- المسلمات : البرهنة: ما يثبت ذلك ، ما اكده علم نفس الطفل من ان الطفل يولد صفحة بيضاء خاليا تماما من اية افكار ، ويبدأ في اكتسابها بالموازاة مع تعلمه اللغة ، وعندما يصل الى مرحلة النضج العقلي فإنه يفكر باللغة التي يتقنها ، فالافكار لا ترد الى الذهن مجردة ، بل مغلفة باللغة التي نعرفها فـ« مهما كانت الافكار التي تجيئ الى فكر الانسان ، فإنها لا تستطيع ان تنشأ وتوجد الا على مادة اللغة ».
ومن جهة ثانية ، فإن الافكار تبقى عديمة المعنى اذا بقيت في ذهن صاحبها ولم تتجسد في الواقع ، ولا سبيل الى ذلك الا بألفاظ اللغة التي تدرك ادراكاً حسياً ، أي ان اللغة هي التي تخرج الفكر الى الوجود الفعلي ، ولولاها لبقي كامناً عدماً ، ولذلك قيل : « الكلمة لباس المعنى ، ولولاها لبقي مجهولاً » .
وعلى هذا الاساس ، فإن العلاقة بين الفكر واللغة بمثابة العلاقة بين الروح والجسد ، الامر الذي جعل الفيلسوف الانجليزي ( هاملتون ) يقول : « الالفاظ حصون المعاني » .
2- تدعيم الاطروحة بحجج : أن اللغة تقدم للفكر القوالب التي تصاغ فيها المعاني .
- اللغة وسيلة لإبراز الفكر من حيز الكتمان الى حيز التصريح .
- اللغة عماد التفكير وكشف الحقائق .
- اللغة تقدم للفكر تعاريف جاهزة ، وتزود المفكر بصيغ وتعابير معروفة
- اللغة اداة لوصف الاشياء حتى لا تتادخل مع غيرها .
3-أ- عرض منطق الخصوم : يزعم معظم الفلاسفة الحدسانيون والرمزيون من الادباء والفنانين وكذا الصوفية ، انه لا يوجد تناسب بين عالم الافكار وعالم الالفاظ ، فالفكر اوسع من اللغة واسبق منها ، ويلزم عن ذلك ان ما يملكه الفرد من افكار ومعان يفوق بكثير ما يملكه من الفاظٍ وكلمات ٍ ، مما يعني انه يمكن ان توجد افكار خارج اطار اللغة .
ويؤكد ذلك ، ان الانسان كثيرا ما يدرك في ذهنه كما زاخرا من المعاني تتزاحم في ذهنه ، وفي المقابل لا يجد الا الفاظا محدودة لا تكفي لبيان هذه المعاني . كما قد يفهم امرا من الامور ويكون عنه فكرة واضحة بذهنه وهو لم يتكلم بعد ، فإذا شرع في التعبير عما حصل في ذهنه من افكار عجز عن ذلك . كما ان الفكر فيض متصل من المعاني في تدفق مستمر لا تسعه الالفاظ ، وهو نابض بالحياة والروح ، وهو " ديمومة " [2] لا تعرف الانقسام أو التجزئة ، أما الفاظ اللغة فهي سلسلة من الاصوات منفصلة ، مجزأة ومتقطعة ، ولا يمكن للمنفصل ان يعبر عن المتصل ، والنتيجة أن اللغة تجمد الفكر في قوالب جامدة فاقدة للحيوية ، لذلك قيل : « الالفاظ قبور المعاني » .
نقد منطقهم : ان اسبقية الفكر على اللغة مجرد اسبقية منطقية لا زمنية ؛ فالانسان يشعر أنه يفكر ويتكلم في آنٍ واحد . والواقع يبين ان التفكير يستحيل ان يتم بدون لغة ؛ فكيف يمكن ان تمثل في الذهن تصورات لا اسم لها ؟ وكيف تتمايز الافكار فيما بينها لولا اندراجها في قوالب لغوية ؟
iii - حل المشكل :وهذا يعني انه لا يمكن للفكر ان يتواجد دون لغة ، وان الرغبة في التفكير بدون لغة – كما يقول هيجل – هي محاولة عديمة المعنى ، فاللغة هي التي تعطي للفكر وجوده الاسمى والاصح ، مما يؤدي بنا الى القول ان الاطروحة السابقة اطروحة صحيحة .
المقالة الثامثة حول الذاكرة : هل الذاكرة ظاهرة اجتماعية أم بيولوجيةالطريقة : جدلية
I - طرح المشكل : اختلفت الطروحات والتفسيرات فيما يتعلق بطبيعة الذاكرة وحفظ الذكريات . فاعتقد البعض ان الذاكرة ذات طبيعة اجتماعية ، وان الذكريات مجرد خبرات مشتركة بين افراد الجماعة الواحدة . واعتقد آخرون ان الذاكرة مجرد وظيفة مادية من وظائف الدماغ ؛ الامر الذي يدعونا الى طرح المشكلة التالية : هل الذاكرة ذات طابع اجتماعي أم مادي بيولوجي ؟
II- محاولةحل المشكل
1-أ- عرض الاطروحة : أنصار النظرية الاجتماعية : اساس الذاكرة هو المجتمع ؛ أي انها ظاهرة اجتماعية بالدرجة الاولى .
1-ب- الحجة : لأن – أصل كل ذكرى الادراك الحسي ، والانسان حتى ولو كان منعزلا فانه عندما يدرك أمرا ويثبته في ذهنه فإنه يعطيه إسما ليميزه عن المدركات السابقة ، وهو في ذلك يعتمد على اللغة ، واللغة ذات طابع اجتماعي ، لذلك فالذكريات تحفظ بواسطة اشارات ورموز اللغة ، التي تُكتسب من المجتمع
- ان الفرد لا يعود الى الذاكرة ليسترجع ما فيها من صور ، الا اذا دفعه الغير الى ذلك أو وجه اليه سؤالا ، فأنت مثلا لا تتذكر مرحلة الابتدائي او المتوسط الا اذا رأيت زميلا لك شاركك تلك المرحلة ، او اذا وجه اليك سؤالا حولها ، لذلك فإن معظم خبراتنا من طبيعة اجتماعية ، وهي تتعلق بالغير ، ونسبة ماهو فردي فيها ضئيل ، يقول هالفاكس : " إنني في أغلب الاحيان حينما أتذكر فإن الغير هو الذي يدفعني الى التذكر ... لأن ذاكرتي تساعد ذاكرته ، كما أن ذاكرته تساعد ذاكرتي " .
ويقول : " ليس هناك ما يدعو للبحث عن موضوع الذكريات وأين تحفظ إذ أنني أتذكرها من الخارج ... فالزمرة الاجتماعية التي انتسب إليها هي التي تقدم إلي جميع الوسائل لإعادة بنائها "
- والانسان لكي يتعرف على ذكرياته ويحدد اطارها الزماني والمكاني ، فإنه في الغالب يلجأ الى احداث اجتماعية ، فيقول مثلا ( حدث ذلك اثناء .... او قبل .... و في المكان ..... وعليه فالذكريات بدون أطر اجتماعية تبقى صور غير محددة وكأنها تخيلات ، يقول : ب . جاني : " لو كان الانسان وحيدا لما كانت له ذاكرة ولما كان بحاجة إليها " .
1-ج- النقد : لو كانت الذاكرة ظاهرة اجتماعية بالاساس ، فيلزم عن ذلك أن تكون ذكريات جميع الافراد المتواجدين داخل المجتمع الواحد متماثلة ، وهذا غير واقع . ثم ان الفرد حينما يتذكر ، لا يتذكر دائما ماضيه المشترك مع الغير ، فقد يتذكر حوادث شخصية لا علاقة للغير بها ولم يطلب منه احد تذكرها ( كما هو الحال في حالات العزلة عندما نتذكر بدافع مؤثر شخصي ) ، مما يعني وجود ذكريات فردية خالصة .
2-أ- عرض نقيض الاطروحة : النظرية المادية : الذاكرة وظيفة مادية بالدرجة الاولى ، وترتبط بالنشاط العصبي ( الدماغ ) .
2-ب- الحجة : لأن : - الذاكرة ترتبط بالدماغ ، واصابته في منطقة ما تؤدي الى تلف الذكريات ( من ذلك الفقدان الكلي او الجزئي للذكريات في بعض الحوادث ) .
- بعض امراض الذاكرة لها علاقة بالاضطرابات التي تصيب الجملة العصبية عموما والدماغ على وجه الخصوص ، فالحبسة او الافازيا ( التي هي من مظاهر فقدان الذاكرة ) سببها اصابة منطقة بروكا في قاعدة التلفيف الثالث من الجهة الشمالية للدماغ ، أو بسبب نزيف دموي في الفص الجداري الايمن من الجهة اليسرى للدماغ ، مثال ذلك الفتاة التي أصيبت برصاصة ادت الى نزيف في الفص الجداري الايمن من الجهة اليسرى للدماغ ، فكانت لا تتعرف على الاشياء الموضوعة في يدها اليسرى بعد تعصيب عينيها ، فهي تحوم حولها وتصفها دون ان تذكرها بالاسم ، وتتعرف عليها مباشرة بعد وضعها في يدها اليمنى
يقول تين Taine: " إن الدماغ وعاء يستقبل ويختزن مختلف الذكريات " ، ويقول ريبو : " الذاكرة وظيفة بيولوجية بالماهية "
2-ج- النقد : ان ما يفند مزاعم انصار النظرية المادية هو ان فقدان الذاكرة لا يعود دائما الى اسباب عضوية (اصابات في الدماغ) فقد يكون لأسباب نفسية ( صدمات نفسية ) ... ثم ان الذاكرة قائمة على عنصر الانتقاء سواء في مرحلة التحصيل والتثبيت او في مرحلة الاسترجاع ، وهذا الانتقاء لا يمكن تفسيره الا بالميل والاهتمام والرغبة والوعي والشعور بالموقف الذي يتطلب التذكر .. وهذه كلها امور نفسية لا مادية .
3- التركيب ( تجاوز الموقفين ) : ومنه يتبين ان الذاكرة رغم انها تشترط اطر اجتماعية نسترجع فيها صور الذكريات ونحدد من خلالها اطارها الزماني والمكاني ، بالاضافة الى سلامة الجملة العصبية والدماغ على وجه التحديد ، الا انها تبقى احوال نفسية خالصة ، إنها ديمومة نفسية أي روح ، وتتحكم فيها مجموعة من العوامل النفسية كالرغبات والميول والدوافع والشعور ..
الامثلة : إن قدرة الشاعر على حفظ الشعر اكبر من قدرة الرياضي . ومقدرة الرياضي في حفظ الأرقام والمسائل الرياضية اكبر من مقدرة الفيلسوف ... وهكذا , والفرد في حالة القلق والتعب يكون اقل قدرة على الحفظ , وهذا بالإضافة إلى السمات الشخصية التي تؤثر إيجابا أو سلبا على القدرة على التعلم والتذكر كعامل السن ومستوى الذكاء والخبرات السابقة ..
III- حل المشكل: وهكذا يتضح ان الذاكرة ذات طبيعة معقدة ، يتداخل ويتشابك فيها ماهو مادي مع ماهو اجتماعي مع ماهو نفسي ، بحث لا يمكن ان نهمل او نغلّب فيها عنصرا من هذه العناصر الثلاث .
ملاحظة : يمكن في التركيب الجمع بين الموقفين ، و ليس من الضروري تجاوزهما
تحياتي لكم والسلام عليكم جميعا ورحمة الله وبركاته saliiiiiiiiiiiiiii7 16