اللغة الشعرية
--------------------------------------------------------------------------------
اللغة هي الوسيلة الأولى لعملية التواصل مع الآخرين، غير أنها تتعدى وظيفتها الاجتماعية المحدودة هذه، فتشكل الأساس في عملية بناء العمل الأدبي ـ سواء كان شعرًا أو نثرًا ـ، إذ تمثل الطريق الموصلة بين المبدع والمتلقي، فتؤدي بذلك وظيفة أخرى، تتمثل في إيجاد روابط انفعالية بينهما، فتتجاوز بذلك لغة التقرير إلى لغة التعبير، وتسعى للكشف عن العواطف والأحاسيس والانفعالات الكامنة في قلب الشاعر، ومحاولة إيصالها في نفس المتلقي. واللغة الشعرية تعكس قدرة الشاعر في إثراء اللغة، وتفجير طاقاتها، وإقامة الروابط المجازية بين مفرداتها، وكسر حاجز الجمود، والتقوقع داخل محيط عقلانية اللغة، ومعرفة قدرته الإبداعية في إيجاد الصور، وأداء المعنى المطلوب، ونقل التجربة الانفعالية لدى الشاعر بصدق وحرارة.
فاللغة تمثل الركيزة الأولى لدى الشاعر لإقامة بنائه الشعري، ومن ثم فإن الشاعر المبدع يسعى حثيثًا ـ من خلال ثقافته وقراءته ـ إلى إيجاد علاقات حيوية بين مفرداته وألفاظه، مقيمًا بينها روابط وثيقة يستطيع من خلالها أن يتجاوز إلى أعماق المتلقي، محاولاً الوصول إلى بناء لغوي تتكامل فيه اللغة الشعرية والصورة الفنية مع التجربة الانفعالية الوجدانية، فيتحقق الهدف الأسمى من ذلك البناء. ولذلك لابد أن يكون الشاعر خبيرًا باللغة وإيحاءاتها، يختارها ويولد منها ما قدر على التوليد لا ليأتي بمعان يجهلها الناس تمامًا، ولكن ليصور صفوة معارفهم من زوايا متفردة تدهشهم وتعيش إحساسات جمالية لا تنتهي، ولعله من المحال أن نصدر أحكامًا على شاعر في فلسفته أو رؤيته دون الاستعانة بالتحليل اللغوي لأعماله الشعرية بأساليبه المتميزة. إذ إن هذا التحليل يساعد على تجلية التجربة الشعرية لديه في جميع مستوياتها: المستوى المادي باعتباره مكونات حسية مدركة، والمستوى النفسي باعتبار ما يتصل بالمكونات من انفعالات مصاحبة، والمستوى الواعي وهو الخاص بعملية التنظيم والتحديد والحصر. واللغة الشعرية تتكون في أصغر مكوناتها من الأصوات/الحروف وهي ذات قيمة دلالية واسعة، ثم تكون الكلمة ـ بما فيها من إيحاء أو تركيز أو غير ذلك ـ المكون الثاني، وهي ـ أي الكلمة ـ ذات أبعاد دلالية وموسيقية ونفسية لا يمكن أن تحصر، فللكلمة دور بذاتها ولها دور من خلال المجاورة مع كلمة أخرى أو من خلال السياق العام. أما المكون الثالث فهو الجملة التي تتكون في أقل تركيباتها من (فعل+فاعل أو مبتدأ+خبر) وهي ـ أيضًا ـ تحمل أبعادًا مختلفة، تساعد على إيجاد سياق عام يتمحور من خلاله النص الأدبي