ترجمة أبي الفضل بديع الزمان الهمذاني
من هو ؟
الكاتب المترسّل، والشاعر المجيد، قدوة الحريريّ، وقريع الخوارزميّ، ووارث مكانته، معجزة همذان، ونادرة الفلك، وفريد دهره رواية وحفظاً، وعرّة عصره بديهة وذكاء، أبو الفضل أحمد بن الحسين بديع الزمان الهمذاني.
نشأته، ونباهة شأنه، ووفاته:
نشأ بهمذان إحدى مدن فارس الشمالية، ودرس العربية والأدب، وبرع فيهما، ثم غادرها سنة ثمانين وثلثمائة وهو فتيّ السنّ غضّ الشباب، وقد درس على أبي الحسين بن فارس، وأخذ عنه جميع ما عنده، واستنزف علمه، واستنفد بحره، وورد حضرة أبي القاسم، فتزود من أدبه الجمّ وحسن آثاره، ثم قدم جرجان وأقام بها مدة على مداخلة جماعة الإسماعيلية، والتّعيش في أكنافهم، والاقتباس من أنوارهم، واختصه أبو سعد محمد بن منصور بمزيد الفضل وإسداء المعروف، ثم اعتزم نيسابور وشدّ إليها رحلة، فأعانه أبو سعد وأحسن إمداده، فوافاها سنة اثنتين وثمانين وثلثمائة، ونشر فيها بزّه، وأظهر طرزه، وأملى أربعمائة مقامة فتحها أبا الفتح الإسكندري في الكدية ونحوها، بلفظ رشيق، وسجع رقيق. نسج الحريريّ على منوالها، وهيهات أن يدرك الظالع شأو الظليع، ثم شجر بينه وبين أبي بكر الخوارزميّ ما كان سبباً لهبوب ريح الهمذاني، وعلو أمره، وقرب نجحه، وبعد صيته، إذ لم يكن في الحسبان أن أحداً من الأدباء والكتاب والشعراء ينبري لمباراة الخوارزميّ، أو يتجرأ على مجاراته، فلما تصدّى البديع لمساجلته، وجرت بينهما مكاتبات، ومباهتات، ومناظرات، ومناضلات، وأفضى السّنا إلى العنان، وقرع النبع بالنبع، وجرى من الترجيح بينهما ما يجري بين الخصمين المتحاكمين، والقرنين المتصاولين، طار ذكر الهمذاني، وارتفع عند الملوك والرؤساء. ثم مات الخوارزميّ؛ فخلا له الجو، وحسنت حاله، ونعم باله، ورفه عيشه، ولم يبق من بلاد خرسان وسجستان بلدة إلا دخلها، واستفاد خيرها، ثم استوطن هراة، وخار له الله في مصاهرة أبي علي الحسين بن محمد أحد أعيانها العلماء فانتظمت أحواله، وقرّت عينه، وقوي ساعده، ولكن المنية عاجلته وهو في سن الأربعين سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة.
شيء من أخلاقه وصفاته:
لئن كان شعره ينم عن بديهة حاضرة، وذكاء واسع، فإنه يدلّ أيضاً على خلق فاضل ونفس عالية. قال عنه صاحب اليتيمة: وكان مقبول الصورة، خفيف الروح، حسن العشرة، ناصع الطرف، عظيم الخلق، شريف النفس، كريم العهد، خالص الود، حلو الصداقة، مرّ العداوة. وتلك خلال لم يذكرها أبو منصور جزافاً، ولكنه عرفها عنه. وهذا شعره _ والشعر حديث النفس ووحي الضمير _ ناطق بذلك.
مختارات من كلامه:
البديع شاعر ناثر، وهو في كليهما قد ضرب بسهم بعيد المرمي، واغترف من بحر عميق الغور، إلا أنه البحر العذب الفرات، وإن مقاماته التي بين أيدينا والتي عنينا بالتعليق عليها لخير مثال من النثر البارع، وله سواها رسائل ربما أمكنتنا الظروف من نشرها، ولكنا نورد منها قطعة تنبئ عن اقتداره وتفوقه.
كتب إلى الأمير أبي نصر الميكالي يقول:
كتابي _ أطال الله بقاء الأمير _ وبودّي أن أكونه، فأسعد به دونه، ولكن الحريص محروم، لو بلغ الرزق فاه، لولاّه قفاه. وبعد فإن لي في مفاتحته ثقة تعد، ويداً ترتعد، ولم ذاك، والبحر وإن لم أره، فقد سمعت خبره؟ ومن رأى السيف أثره، فقد رأى أكثره، وإذا لم ألقه، فلم أجهل إلا خلقه، وما وراء ذلك من تالد أصل ونسب، وطارف فضل وأدب، فمعلوم تشهد به الدّفاتر، والخبر المتواتر، وتنطق به الأشعار، كما تخلف عيه الآثار، والعين أقل الحواس إدراكاً، والأذن أكثرها استمساكاً.
وهو في شعره لم يقصر عن نثره، وربما كان شعره أمتن لفظا، وأروع معنى، فمنه من قصيدة مدح بها الأمير أبا علي:
أبى المقام بدار الذلّ بي الكرم
وهمّة تصل التوخيد والخببا
وعزمه لا تزال الدّهر ضاربة
دون الأمير وفوق المشترى طنبا
يا سيّدَ الأمراءِ افخرْ، فلا ملكٌ
إلاّ تمنّاك مولى، واشتهاكَ أبا
وكادَ يحكيكَ صوبَ الغيثِ منسكباً
لـو كانَ طلق المحيا يمطر الذّهبا
والدّهر لو لم يخن، والشّمس لو نطقت
واللّيث لو لم يصد، والبحر لو عذبا
منقول