الأسلوب العلمي المتأدب
--------------------------------------------------------------------------------
إذا كان الأسلوب العلمي محدد المعاني ، خاليا من العاطفة والخيال والبلاغة لأن هدفه الإفهام والإقناع . وإذا كان الأسلوب الأدبي حافلا بالعاطفة محشوا بالخيال ، قائماً على الأساليب الفنية البلاغية لأنه يهدف إلي الإمتاع والتأثير - كما في الأمثلة السابقة - فإن هناك أسلوباً يجمع بين الحسنيين - يجمع بين أهداف الأسلوب العلمي في عرض الحقائق العلمية ويقصد إلي الإفهام والإقناع ، ويجمع بين بعض سمات وجماليات الأسلوب الأدبي - هذا الأسلوب يسمي " الأسلوب العلمي المتأدب - وهو المتمثل في النصوص العلمية التي تكتسب قيمة أدبية من طريقة عرضها - وعلى رأس هذا النوع كتب التاريخ وكتب الرحلات . فمن مؤلفيها من يمتعون القارئ بطريقتهم في سرد الأحداث ، ووصف المناظر ، وتقديم الشخصيات ، وتحليل الدوافع الإنسانية . حتى لتحسب أنك تقرأ قصة خيالية لاعرضا علمياً .
إنه أسلوب يقدم لنا الحقائق العلمية في أسلوب يقربها إلينا وتخفيف جفافها باستخدام الأسلوب الأدبي الجميل .
1 - أركان الأسلوب العلمي المتأدب :
1. الأفكار والمعاني .
2. الصياغة
3. بعض جماليات الأسلوب الأدبي
2 - نموذج للأسلوب العلمي المتأدب :
من مقال لوظيفة الكبد للدكتور / خالص جلبي قال :
" الكبد سد كبير أمام نفوذ أي سم إلي البدن ، ما لم يتغلب على الخلايا الكبدية ويدمرها ، وبذلك تكون خلايا الكبد الحارس الأمين للبدن فلا يسمح بأن يتأذي حتى يكون العطب قد استولي على خلايا الكبد بالذات فهل بعد هذا الفداء والتضحية من تضحية ؟
إن جملة من طرائق الكبد في التخلص من السموم ، ما هو بسيط في ضرب الحصار حوله ، أو إتلافه وإيثاقه ، كما في إيثاق المجرمين ، وعملية الأيثاق هنا هي المعروفة باتحاد السم مع حمض الكبريت ، أو حمض الفلوكورنيك .
وبهذه الطريقة يمكن نقل هذه المادة السامة بأمان من خلال المصرف العام أي : القناة الصفراوية ، حيث تطرح في الأمعاء مرة أخري لتلقي خارج الجسم .
المتأمل لهذه الفقرة العلمية التي تشرح بطريقة علمية وظيفة الكبد وأهميته في حياة الإنسان ، يري أنه قد شرح هذه الحقائق العلمية من تركيبات الخلايا ، والأحماض ، ودورات الدم ، والقناة الصفراوية - وكلها مصطلحات علمية جافة - إلا على المتخصصين في مجالها . نري الكاتب هنا قد صاغ هذه الحقائق العلمية بأسلوب ملتزم بالحقائق العلمية لكن مع تخفيف الجفاف العلمي ، والتفسير الطبي - فاستخدم ألفاظا لاجفاف فيها . ( الحارس الأمين - الفداء - التضحية - ضرب الحصار حوله ، المصرف العام) .
ومع احتفاظه بسلامة الحقائق العلمية فإنه قد قربها إلي الأذهان ووضحها بالصور الخيالية ، مثل :
* الكبد سد كبير أمام نفوذ أي سم إلي البدن = تشبيه بليغ
* كما في إيثاق المجرمين = تشبيه .
* المصرف العام = استعارة تصريحية .
من هنا وجدنا أن هذه الفقرة تجمع بين موضوع وأهداف الأسلوب العملي ، وبين بعض سهولة ووضوح وخيال الأسلوب الأدبي ، فحق أن يسمي هذا الأسلوب العملي المتأدب . لأنه خليط من خصائص الأسلوب العلمي ومن خصائص الأسلوب الأدبي .
3 - خصائص الأسلوب العلمي المتأدب :
1. يعالج جميع القضايا العلمية والإنسانية .
2. يعرض أفكاره العلمية بأسلوب سهل مفهوم .
3. يخفف من استخدام المصطلحات العلمية ، ويبسط عرضها .
4. دقة استخدام الألفاظ والأساليب .
5. فيه بعض الصور الخيالية ، لتوضيح الفكرة وشرحها بصورة واضحة .
6. فيه بعض من مظاهر شخصية الكاتب ، دون طغيان على الحقائق العلمية .
7. يهدف إلي الإفهام والإقناع ، مع بعض التشويق والإثارة .
8. فيه قليل من المحسنات البلاغية - التي تجئ دون قصد . أو يخلو منها .
4 - نموذج للدراسة من الأسلوب العلمي المتأدب :
" مع الله في الأرض - الطير - من مقال الدكتور أحمد زكي - مجلة العربي أغسطس 1973)
[ إن الأحياء جميعاً نشأت من الوحدة على بساط من الخلق الواحد ، دليل صنعة فيها واحدة ، وصانع واحد ، ولكنها صنعة فاهمة عاقلة ، مدبرة قادرة مقتدرة تغير من أعضاء ووظائف أعضاء ما يتفق مع العيشة على الأرض ، أو العيشة في الماء ، أو العيشة في السماء .
ومن أجل ذلك اشتركت الطيور مع الزواحف في الكثير ، ولكن لما أريد للطير أن يصعد إلي الهواء تغير كنهه ، وتغيرت وظائف أعضائه في الكثير . تغيرت بكل ما يمهد أو يسهل على الطير أن يطير .
فأولاً شكله المسحوب : فهو يخترق الهواء بأقل ما يمكن من معارضة واحتكاك . ثم وزن الطير ؛ فقد قل هذا الوزن دون أن يفقد القدرة على إعطاء الطاقة اللازمة ، وعظام الطير خفت ، وهي مسامية ؛ ومنها ما يملؤه الهواء ، ورجلاه الأماميتان اللتان لذوات الأربع تحولتا إلي جناحين هما أداة الطير ، وفيهما من سر الخلق بحسن الصنع فشئ الكثير ] .
هذا النص جزء من مقال كتب بالأسلوب العلمي المتأدب ، وفيه نلاحظ :
1. المادة العلمية فيه سليمة دقيقة ، فلا تجاوز للحقائق العلمية في الحديث عن شكل الطير ، أو تكوين جسمه .
2. أنه مع هذه الموضوعية - يقف عند مواطن الإبداع ، وأسرار الخلق وقفات متأنية متأملة ، ليجلو ، ويوضح ، ويفسر ، ويملأ العقول باليقين والقلوب بالنور .
3. عبارات المقال تحتفظ بدقة اللغة العلمية ، وذلك باستخدام الألفاظ المحددة الدلالة ، مثل : بأقل ما يمكن ، تغيرت وظائف أعضائه في الكثير .
4. ومع هذه اللغة مؤثرات فنية تخفف من جفاف المادة العلمية ونعرضها عرضا جذاباً ، وتري ذلك واضحا في التصوير في قوله : " ولكنها صنعة فاهمة عاقلة ، متصرفة قادرة مقتدرة "
وهكذا جمع المقال بين دقة المادة العلمية والموضوعية في عرضها ، وبراعة في الكشف عما وراءها من أسرار - كما تري أسلوبا يجمع إلي الدقة في أداء المعاني القدرة على الإمتاع ، والتأثير وهي صفات الأسلوب العلمي المتأدب .