ا
اخوني الاعضاء والزوار اقدم لكم رواية السجين يهرب
السجين يهرب ,, الرواية كاملة ,,
هذى رواية السجين كاملة ,, للكاتب خالد بن سليمان الجبرين ,,
الفصل الأول:
"
الممرة" قرية صغيرة ذات بيوت صغيرة متلاصقة وسخة تقع في قعر العراق في الشمال بعيداً عن بغداد مسيرة يومين للماشي على قدميه في أحد دروب الممرة الضيقة يسمع وقع أقدام متعثرة غير منتظمة الوقت ليلاً وبسبب من ضوء القمر الشحيح إنطرح على الأرض ظلال شخص يمشي مترنحاً وعندما لفه الدرب إلى باحة مغلقة على جنباتها عدة أبواب مغلقة تبينت هيئته واضحة تحت شحوب القمر شاب في السابعة والعشرين بثياب بالية وطاقية فقدت لونها الأصلي متوسط القامة متين العضلات حزين الملامح،بعينين نصف مغمضتين كان سكراناً إلى درجة متوسطة ثقيل الخطى يغطي زوايا فمه المليح زبد من اللعاب
وقف الشاب أمام أحد الأبواب المغلقة وطرقه كان البيت يدل على مستوى ساكينه بيت صغير لصياد فقير بعد فترة فتح الباب وأطلًت منه وجه امرأة مُسنًة،تمسك خمارها على وجهها،فلما عرفت في الشاب ولدها الوحيد ترت خمارها يسقط عن وجهها وهتفت في حزن وألم:
- أنت سكران ياولدي؟!
أجابها الشاب بصبر نافذ:
- أريد أن أنام
وقبل أن يدفع الباب للدخول أغلقته بسرعة فصاح الشاب:
- أفتحي ياأماه أنا لاأقوى على الوقوف!
ومن وراء الباب أجابته:
- سيرتك السيئة ياولدي سترديك وسيطردك أبوك من البيت
- أفتحي الباب،ولم يعلم أبي أنه نائم
- لن أدعك تدخل حتى أخبره
- لا تخبريه بشيء إن علم بحالي فسيطردني إلى الأبد لقد هددني بذلك
- لقد أقسم عليً بان أوقظه حال وصولك
- الويل لي!
كان يتكلم بلسان ثقيل00 وزال عنه شيء من غبش السكر عندما سمع وقع أقدام والده يتجه نحو الباب0 وتوقع حدوث أسوأ الأشياء0 فظل واقفاً مستسلماً لما سيحدث00 إنه يخشى هذا الكهل فقد هدده مراراً0وفتح الباب لتخرج منه عصا غليظة، وتهوي على رأسه فيسقط مرعوبا متألماَ00وجلس على الأرض يتحسس رأسه00ورفع عينيه فصدم بمرأى والده الذي خلت ملامحه من أي بشائر التسامح00كان لحيته البيضاء المستطيلة ترتجف بإرتجاف فكه الأسفل وفي عينيه نظرات الغضب والحسرة ونهره الشيخ بغلظة:
- لماذا جئت؟
أجاب وهو يتحسس الكرة الصغيرة التي نبتت في رأسه:
- أريد أن أنام
- ليس عندي مكان لك بعد اليوم!
فسأل الشاب في لهفة:
- وأين أذهب؟!
- إلى أي أرض تعجبك
- أعف عني يا أبتاه وأعدك أني
- أصمت لقد سئمت وعودك الكاذبة عليك الآن أن تتدبر شئونك
وقال الشاب بخجل:
- دعني أنام هذه الليلة فقط!
وقالت أم الشاب التي كانت تقف خلف زوجها:
- دعه ينام هذه الليلة ياعبد المغيث ويرحل في الصباح؟
- رد الكهل بحزم:
- لن يتعدى هذه العتبة اعطني صرة ثيابه
وبعين دامعة ناولته المرأة صرة كانت في يدها فأخذها وقذف بها في وجه ولده الوحيد وهتف محنقاً:
- هذه ثيابك ياغياث لست ولدي ولست والداً لك !
وتناول الشاب الصرة وقام من على الأرض،وهم بأن يلقي بنفسه على والده ويقبل قدميه رجاء عفوه،لكن ما فعله الشيخ قطع عليه آماله، فقد قبض ثوبه من جهة صدره وهزًه بعنف وكأنه طفل وصاح في وجهه:
- إسمع إذا رأيتك في هذا المكان مرة أخرى سأهشم رأسك ثم طرحه على الأرض ودخل مغلقاً الباب وراءه
لفترة جمد الشاب في مكانه ثم تحرك بتراخ لم يدر إلى أين سيذهب، فهام على وجهه مدة حتى صار في ظاهر القرية ثم وجد نفسه يسير جنوباً بمحاذاة نهر دجلة متجهاً إلى بغداد كان يلزمه مسيرة يومين ليصل إلى عاصمة الخلافة لكنه مشا متباطئاً بغير حرص على الوصول كان يجر رجليه جراً!
إلى هنا نتوقف ونكمل فيما بعد القصة
الفصل الثاني العذاب الضيق الأماني العراض التي أفترسها الفشل كل ذلك إنحرف بمسيرته وأهلك القناعة بداخله،وأوقد في نفسه رغبة مسعورة لتحقيق ما يريد!!
تأمل حاله المزرية
بطالة طاغيةفقرٌ مقدع أبوه الصياد كهلٌ متعبٌ حطمته الأيام،ونهشه الفقر والحاجة المستديمة للمال،فأصبح يذكر الموت أكثر من ذكره ملذات الحياة
لكنه مع ذلك زاهدٌ عفيفٌ،لم يسأل أحداً يوماً فلساً واحداًوعمل مع والده في صباه كثيراً أصبح حواتاً ماهراً يصيد السمك بحربة الصيد مع أي جزء يشاء،ثم عمل حمَّالاً ثم مزارعاً ثم حرفياً
لكنه ولد بنفس طموحه إلى المجد والجاه إلى الصيت الذائع،وتراكم في نفسه إعتقاد راسخ بأن مشكلته وسعادته في المال فسعى للبحث عن الثراء بوحشية!
مارس التجارة ففشل،ونفد كل ما معه من نقود جرَّب القمار فلازمته الخسارة الدائمة ثم عمد إلى موهبته الأصليةالشعر استعار جبة وعمامة عريضة ودخل على الولاة وكبار القادة،ونظم القصائد في المديح والتملق،فلم يظفر إلا بالقليل،فترك الشعر وعاد إلى القمار فخسر من جديد وأرهقته الديون وتراكم عليه البؤس وقادته الأحزان إلى الخمرة وإقداح النبيذ
ومع الأيام القاسية إنحرف تفكيره فظن أنه خُلق حقوداً شريراَفصار لصاً يسطو على المنازل وشُكي إلى والده،فأمسكه الكهل وربطه إلى جذع نخلة في صحن الدار وجلده حتى بال على نفسه وخر مغشياً عليه
وعاد إلى السرقة من جديد فقبض عليه وسجن وجلد في سجن الوالي ببغداد،وكادت يده أن تقطع ذات مرة!وهدده والده بالبراءة منه ثم طرده أخيراً
بات يمشي حتى منتصف الليل وأدركه التعب فجلس متكئاً على صرة ثيابه، ثم أستلقى على رمل ناعم وبقي يهذي بكلام غير مفهوم،ثم غط في نوم عميق
نام طويلاً في مكانه ذاك حتى أيقضته شمس الضحى الساخنة،فقام وتمطى ونفض ثيابه والعرق يغطي جسمه المتين،وغمس وجهه في مياه دجلة،وأروى عطشه ، ثم أستلقى من جديد تحت ظل شجرة،وعاود النوم حتى أنحسر عنه الظل فتحول إلى موضع الظل،ونام ولم يستيقظ إلا منتصف العصر!
استيقظ والجوع والعطش يستبدان به فقام وواصل مسيره بعدما شرب من دجلة الكثير
وصل إلى إحدى القرى الواقعه على النهر، وتجول في بعض طرقها وطلب من بعض أصحاب الحوانيت إقراضه شيئاً من الطعام،فلم يعطه أحدٌ شيئاً، فمنظره الكئيب، وشعره المشعث ونظراته القاسية لم تكن تبعث على الطمأنينة، وألح في المسألة على أحدهم فنهره وطرده فخرج غاضباً وتمنى لو يحرق القرية على من فيها
ومضى مبتعداً عن القرية متوكئاً على غصن عريض وصادف أحد الصيادين راكباَ حماره، ومعه سلة فيها سمك فسأله عن بغداد فأخبره أنها على مسيرة نهار كامل من هنا تأمل غياث بن عبد المغيث الرجل وحماره بنظرات شرسة أثارت ريبة الصياد، وقبل ان ينخس حماره ليبتعد أهوى غياث بهراوته على مؤخرة رأسه فسقط عن ظهر الحمار مغشياً عليه وبهدوء بحث غياث في ثيابه وسلب ما معه من المال وركب الحمار ومضى
عندما حل المساء توقف على الشاطئ كانت الغيوم قد حجبت ضوء القمر،فعم الظلام الدامي أرجاء المكان وأشعل نارا وشوى بعض ما في السلة من السمك وجلس يأكل بشهية مفتوحة حتى شبع وعاد إلى نشاطه ، وتمنى في هذه اللحظة قدحاً من النبيذ يذهب به عن الدنيا
كان قد بقي على بغداد مسافة ليست بالقصيرة، ومع أنه كان نشطاً إلا أنه أثر أن يكمل مسيرته في الصباح
لم يذهب إلى بغداد إلا مرتين في حياته الأولى وهو صبي في صحبة والده والثانية عندما حُمل مكبلاً وجلد هناك لقيامه بالسرقة كم هالته المدينة الكبيرة العامرة التي تعج بمئات الآلاف من البشر من جميع الأنحاء في بغداد يسهل التخفي،وتكثر الأوكار الأمنه،والأرزاق والجواري وأطيب الخمور وهناك سيجد من يعاضده في أعمال الليل وغزوات المنازل!
ظل مستسلماً لخواطره حتى إجتذب سمعه أنين خافت!! تلفت حوله فلم يرَ شيئاً فعزى ذلك إلى توهمه لكن الصوت عاد ثانية، وتتبعه غياث كان أنيناً لرجل موجوع أو مصاب أرخى سمعه مرة ثالثة ليجد الصوت منبعث من خلف كثيب صغير قريب منه فقام وذهب إلى الكثيب ليجد رجلاً في نحو الخامسة والأربعين ملطخاً بالدماء، وفي كتفه جرح بدم يابس
كان واضحاً أنه تعرض لعراك شديد فثيابه ممزقة ورأسه حاسر مشعث الشعر وكان يمسك بطنه بإحدى يديه
ولإنقاذه حمله غياث بين يديه وأنزله إلى جانب النهر ورش وجهه بالماء وجعل يضرب خديه بخشونة حتى أستفاق
وفتح الرجل عينيه وأدارهما في غياث ثم في الليل برعب وريبة وسأل بوجل:
- أين أنا؟وأين الجمل؟!
فأجاب غياث:
- أنت هنا على شاطئ النهر
- والجمل؟!
- لم أرَ جملاً هنا!
ثم قال يطمئنه:
-لا بأس عليك، جرحك بسيط وسيندمل سريعاً
ولم يعلق الرجل بغير الأنين فظهرت خشونة غياث وقال في ضجر:
- أنت تئن كالثكالى كأنك
ولم يكمل عبارته لأن الرجل أبعد يده عن بطنه فبان تحتها جرح غائر طويل بطول الكف!! فصاح غياث:
- ويحك يارجل أنت تحتاج إلى طبيب!!
فقال الرجل يائساً:
- أنا أحتاج إلى كفن
وسأله غياث بما يشبه الزعيق:
-من أنت؟ ومن أين جئت؟!
فقال بيأسه الأول:
-سأخبرك بما تريد لكن أرفعني قليلاً عن الأرض
واستجاب له غياث رافعاً ظهره عن الأرض فأدار الرجل عينيه المرعوبتين،ومسح بهما أرجاء المكان، وقال وهو يشير بيده التي ليست على الحرح إلى جهة من البر:
-هناك ستجد الجمل هناك لقد رأيته يذهب من هذه الناحية عندما سقطت من على ظهره
وذهب غياث إلى حيث أشار الرجلُ الجريحُ ليبحث عن جمله تجول قليلاً في الفلاة المظُلمة وهم بالرجوع وهو يشتم الرجل:
-قتله الله لم تنته مصيبتي حتى أبلى به!!
لكنه وجد الجمل ملتفاً بالظلام باركاً على الأرض يجتر ماأكله في النهار هدر الجمل عندما رآه، فأقتاده غياث إلى الرجل الذي أخذه الأعياء فنام
قذف غياث إلى النار ببعض الحطب فأرتفع اللهب متراقصاً مضيئاً المكان تأمل غياث الرجل وبدا له أنه يعرفه وحاول أن يتذكركان دقيق الملامح مهزولاً على جانب صدغه الأيسر أثر جرح قديم،منعه بعض شعر اللحية من الظهور وعندما تذكره هزًّ رأسه!
وبهدوء وحذر تحسس ثيابه وجيوبه، فلم يجد غير بضعة دراهم، فسلبها ووضعها في جيبه وراعه أن جسد الرجل كان يفور بالحرارة!
وأحس الرجل به فاستيقظ وتكلم وهو يلهث:
-هل جئت؟
-نعم وقد وجدت جملك
-إذاً أنظر هناك ستجد قارباً كبيراً أنزل به أحمال الجمل ولنصعد إليه ونعبر إلى الضفة الأخرى من النهر، فهناك بقايا نخل وبيت صغير مهجور هيا بسرعة
-لماذا لا نبيت الليلة هنا، ونمضي إلى البيت في الصباح؟!
-لالابد أن نكون هناك حالاً
-تبدو مستعجلاً هل هناك شيء؟!
-ستعرف فيما بعد هيا بسرعة
بسهولة وجد غياث القارب ووجده قديماً متهالكاً فحمل الرجل إليه وأبقاه مستلقياً على ظهره في قاع القارب، ويده لا تفارق بطنه،وقد عاد إليه الأنين
وعمد إلى أحمال الجمل فوجدها خرجين متوسطين معلقين على جانبي الجمل وكانا ثقيلين محكمي الإغلاق والربط
حملهما إلى القارب ولم ينسَ صرة ثيابه وحل قيود الجمل والحمار وترك لهما الحرية وبدأ يجدف مجتازاً النهر الهادر لكي يصل إلي الجهة الغربية
ظل يجدف حتى صاح الرجل فجأة:
- الماء!! الماء سيغمر القارب؟!
كانا في منتصف النهر، وبحث غياث في القارب فلم يجد مصدر الماء بسبب الظلام فجعل يتحسس بطن القارب بيديه حتى وجده فصاح بغضب:
-إنه مثقوب!كيف لم تخبرني أنه مثقوب؟!
-لم أكن أعلم وإلا لما تركتك تبحر به ربما حطمه الجمل! لم يفهم غياث شيئاً وظل يجدف بإنفعال في سباق مع المياه المتدفقة التي أبطئت بسرعة القارب، فترك غياث المجاديف، وجعل ينزح المياه من القارب بدلو وجده
ومع الوقت عجز عن السيطرة على الماء فجلس يستريح ويدلك زنديه القويين
فهتف به الرجل ملهوفاً:
-لاتتوقف أنا لا أستطيع النهوض وستغرقني المياه وأنا مستلقٍ قبل أن يغوص القارب!
فقال غياث في برم:
-قبحك الله وماذا أصنع بك؟ كل ماأستطيع فعله أن أخفف من حمل القارب حتى يسحل التجديف
وقذف بالصناديق والشباك والحبال إلى جوف النهر وتناول احد الخرجين بسرعه وقذف به إلى الماء ومد يده إلى الثاني فصاح به الرجل الجريح:
-لا إنه الذهب !!؟
كانت صيحته منكره جعلت شعر غياث يقف!
وضم الرجل الخرج الثاني إلى صدره كأنما يريد حمايته وخاطب غياث بغضب وأسى:
-لماذا قذفت به ياأحمق؟!فقال غياث بدهشة:
-أنت لم تخبرني أنه ذهب لقد ظننته من سائر المتاع!
وعاد ينزح المياه من القارب بالدلو في صراع مع النهر ثم يجدف وهو ينقل بصره مابين قعر القارب، وصفحة النهر الداكنة المخيفة ثم حانت منه إلتفاته إلى الرجل فوجده يذرف دموعاً غزاراً كان الشعور بالعجز والخسارة قد غلبه ثم سمعه غياث يهذي:
-طعنت وقاتلت من أجله وهانذا أخسر نصفه عذبك الله ياعدي كما عذبتني!
بصعوبة وصلوا إلى الضفة الأخرى من النهر، وحمل غياث الرجل إلى حيث يوجد النخيل والبيت وكان النخيل قليلاً متقارباً وخاوياً وبداخله قامت حجرتان متداعيتان من الطين وأمامهما عريش صغير من جريد النخل
وضع غياث الرجل على الأرض لكنه صاح:
-بالداخل بداخل الغرفة فلا طاقة لي بالبرد!
كان الجو معتدلاً لكن الحمى كانت تفترس الرجل فحمله غياث إلى الداخل وهو متشبث بالخرج المتبقي وأنزله في الحجرة المظلمة وهو يئن ويهتف لاهثاً:
-نارأوقد ناراً الجليد يكاد يقتلني أنا محموم!
ثم غاب عن رشده، وعاد إلى الهذيان وإلى شتيمة عدي وأشخاص أخرين حنظلة بكرة بن مرة زليط
وسقط الخرج من يده محدثاً صوتاً أثار فضول غياث الذي قام وجمع بعض الحطب وأشعل ناراً أضائت أركان الحجرة ثم عمد إلى الخرج فتناوله وفتحه ليطلق صيحة مكتومة عندما وجده يكاد يفيض بالذهب الخالص!
الفصل الثالث .. الذهب بغيته شرط سعادته إبتسمت له الدنيا فجأة أرتمت الثروة والمجد تحت قدميه بسهولة هذا المال غنيمه بارده سيناله بلا مخاطرات ولامتاعب فالسرقة مهنته والرجل الجريح عاجز لا يكاد يقوى على الحراك، وليس هناك رقيب ولا شرط فليأخذ هذا الخرج الممتليء وليرجع لإستخراج الثاني بعد حين ليقتنص الفرصة ولينهي شقائه إلى الأبد وسيجد بعدها مئة جواب لمن يسأله عن ثرائه المفاجيء!واحس بتصاعد أنفاسه وتلفت ثم تفكر ملياً وأعاد المال إلى مكانه ووجد نفسه متردداً في سلب الرجل، مع أنه سلبه قبل قليل بعض دريهمات!
حرك النار فتصاعد لهبها تأمل هذه الثروة التي تربض عند قدميه كالكلب الوفي ماذا لو أخذها ولاذ بالفرار وترك الرجل لمصيره يموت بهدوء لقمة سائغة فهو يسطو على المنازل ويقتحم الأخطار من أجل أشياء قليلة تضيع منه في صباح اليوم الذي يليه والآن وجد ما يكفيه مدى عمره كله،فلماذا يترك هاذه السعادة القابعة في حقيبة هاذا الجريح العاجز تضيع منه؟ إنه في الغالب سيموت، فقد تلقى في جوفه طعنة نافذة وهكذا لن يثقل كاهله بقتله فلا مجال للتقاعس والوجل؟!
وتناول الخرج الثقيل مرة ثانية لكن شكوكه عادت فأرجع الخرج إلى مكانه
لقد علمته التجارب أن يكون حذراً ويفكر في كل شيء قبل أن يقدم على عمل جريء كهاذا وقد تحصلت هنده قناعة تامة أن لهذا الذهب الوافر طلاباً غيره،وأنهم لابد أن يتتبعوه أينما ذهب فما زالت تطن في أذنه كلمات الرجل وهو يهذي ويقول: إنه طعن من أجل الذهب ثم خسر نصفه وتلك الأسماء التي كان يرددها حنظلة زليط عدي ولاشك أن الرجل لص مثله فقدرآه يوماً أو شخصاً يشبهه! والأشخاص الذين ذكرهم هم أعوانه أو أعدائه ولهاذا قرر أن يحتال على الرجل ليعرف قصته، ويكون ذلك أدعى للأمن وأخذ الحيطة وخطرت له فكره
أخذ الخرج محاذراً أن تحدث محتوياته صوتاً وحفر حفرةً صغيرةً في جهة من الحجرة، ودفن الخرج فيها وغطاه بطبقة رقيقة من التراب،ووضع صرة ثيابه قوقها وسوى الموضع ، ثم قام إلى الخارج ورفع رأسه وملأ رئتيه من الهواء الندي، وجاء ببعض الحطب وقذف به إلى النار التي كادت تخمد، وعلى ضوئها طفق يتفقد محتويات الغرفة ووجد شِباك صيدٍ قديمةٍ وسلال فارغة، وحبال وثياب وخرق بالية، ووجد صندوقاً به سيف صديء، ورماح وسماح، وكان الغبار يغطي كل شيء ثم ترك الحجرة بعدما ألقى على قدمي الرجل المرتعش بعض الأغطية وجمع المزيد من الحطب والأخشاب، ثم عاد ليجد الرجل قد أستيقظ ووجده يكاد يجن فرقاً على حقيبته، وعندما وقعت عيناه على غياث سأله بفظاظة وريبة:
-أين أموالي؟
-هل تقصد الخرج؟
-نعم هل رأيت أحداً جاء إلى هنا وأخذها؟
-كيف يأتي أحد ليسرقها ولا أمنعه؟!
-إذاً قل لي أين ذهبت؟
-لقد استوليت عليها أنا
-أنت؟
-نعم
وتوقع غياث أن يلعنه الرجل ويغضب ويحاول القيام أو يقذفه بأي شيء لكن شيئاً من ذلك لم يحدث!! بل تغيرت سحنته، وتكدرت ملامحه إلى هيئة مهزومة ساذجة وحزينة بشكل كاد يبعث الأسى في نفسه!!
لقد أُتي من مأمنه، وسُرق من الشخص الذي كان يظن أنه منقذه وعاد يستفسر بطريقة أراد لها أن تكون ثابتة متوعدة:
-بأي حق تأخذ مالاً ليس لك؟!
-وليس ل كانت أيضاً!
كيف تقول هذا إنها أموالي؟!
رد غياث مصطنعاً الثقة:
-لقد عرفتك ساعة نظرت إليك لقد أخذت هذه الأموال ظلماً وعدواناً وليست هذه أولى أعمالك فأنا أعرف عنك الكثير!
لم يكن غياث متأكداً مما يقول، وكان مستعداً لن يتنازل عن شكوكه لو إستمر الرجل في إنكاره غير أن استسلام الرجل السريع أدهشه حيث قال الرجل مناوراً:
-أنت لا تعي شيئاً مما تقول أنا أسمي شهاب الدين وأنا تاجر من تجار حلب وقد داهمني الصوص عندما كنت
-بل أنت لص من لصوص العراق واسمك مروان!
وتقلبت عينا الرجل مبهوتاً وحدج غياث بنظراته المرعوبة المدهوشة في صمت وحنى رأسه، وجعل يتحسس جرحه بيده الملطخة بالدماء اليابسة وخاطبه غياث:
-لقد رأيتك أول مرة في سجن الوالي من أجل جبن سرقته وتدعي الآن أنك تاجر وأن لك أمولاً!؟
واستقام الرجل في جلسته لاهثاً بعدما تجلى عنه الكثير من وطأة الحمى، وأسند ظهره إلى الجدار وقال بصوت هاديء مستسلماً:
-إذاً فأنت تعرفني يافتى؟
فقال غياث معلناً عن نفسه بصراحة:
نعم أعرفك فجميعنا أصحاب مهنة واحدة وعندما كنت تهذي فهمت من كلامك ما يمكن أن تكون وقد سمعتك تهذي بإسم حنظلة وعدي وبكر بن مرة وزليط
وعند ذكر عدي تمتم "مروان"وهو يخاطب نفسه:
-عذًبك الله يا عدي
ثم قال لغياث بسذاجة ناسياً عجزة:
-ستشاركني هذه الغنيمة سأهبك نصف المال مقابل أن تساعدني ؟
فأبتسم غياث مستغرباً كيف أصبح هذا لصاً فاتكاً ثم قال بمكرٍ مستجراً مروان إلى الكلام:
-حسناً وكيف أساعدك؟
-تركبني على ظهر الجمل وتدفع بي إلا سبيل النجاة
-سأفعل ولا أريد نصف المال،فهذا كسب لك وحدك، وإنني من القناعة بحيث يكفيني القليل إذا أخبرتني كيف سلبتَ المال ولك أن أساعدك؟
-ومن يضمن لي أنك لا تخونني؟
-لاخيار لك فأنت عاجز وإذا لم تستجب لي قمت وتركتك!
- والذهب؟
رد غياث محاولاً كسب ثقة مروان:
-الذهب لك إلا ما تصدقت به عليً،فما كنت لآخذ ما حصلت أنت عليه بجهدك
ورفع إلا فم مروان قدحاً كان قد ملأه من النهر فشرب وقال:
-سأحكي لك
وسكت برهة يتحسس جرحه ثم قال بنكد:
-هذا المال لتاجر ثري، يسكن بغداد وهو من أهل فلسطين يقال له ذاهب المقدسي، وكان متصلاً بالخلفاء والولاة وقد جمع من الأموال الكثير وكانت له ضياع ودور وعقار
وقد وشى به بعضهم عند الخليفة فجفاه وعنَّفه،وأظهر له العداوة فضاقت عليه الدنيا وكره بغداد وعاف المقام فيها، واعتزم الرحيل إلى بلاده، والتحول إلى موطنه الأصلي فلسطين فأرسل أولاده وأسرته إلا هناك مع قليل من المال على أن يلحق بهم بعد أشهر
وطفق يبيع ضياعه وعقاره، وكل ما يملك وأشترى هذا الذهب الذي رأيته، وحمل أمتعته وأمواله على بعض الجمال وأستأجر خمسة عشر فارساً لحراسته مع خمسة من عبيده
وكان من أصدقاء المقدسي رجل يحقد عليه ويحسده أسمه حنظلة، وكانت قد جرت بينهما المعرفة في مجلس الخليفة ولم يكن ذاهب يخفي عن حنظلة شيئاً من أموره فجمع حنظلة تسعة من الفتاك وأنضممت أنا إليهم مع أخ لي، وأتفقنا على أن نستولي على الأموال ونهاجم الرجال ليلاً ولم نكن على قلب واحد ولكن جمعتنا حمرة الذهب وكان المقدسي صاحب حيطة وتدبير، فلم يخبر أحداً بمسيره ولا بما تحمله جماله ولم يكن يشك في إخلاص حنظلة، لذا علمنا بكل شيء وتيسر لنا رصد الرجال ومتابعتهم وأختبأنا لهم ليلة البارحة في بعض الطريق، ثم أنقضضنا عليهم متلثمين،كانوا أشد منا قوةً وأكثر عدداً لكن مفاجئتنا لهم ساعدتنا على غلبتهم فقاتلناهم قتالاً شديداً بالنبال والسيوف وقد أخفى زعيمنا حنظلة نفسه،فلما رأى كفة القتال تسير لصالحنا أنضم إلينا0وبدا لي أنه لن ينجو من رجال المقدسي أحد،بينما لم يقتلْ منا سوى أربعة ،وفرَّ بقية الفرسان إلى بعض الصخور طلباَّ للنجاة فطاردهم رجالنا لإفنائهم وكان هذا رأي حنظلة حتى لا يعود أحدٌ منهم إلى بغداد فيعلم الناس بنا إنه لئيمٌ ويحب الدماء ويقتل بلا دافع للقتل!وقد ساءني من حنظلة أنه لم ينضم إلينا إلا بعد أن هزمنا القوم، وأنه كان يحافظ على نفسه،وقدرت أيضاً أن هذا الذهب لو قُسَّم بيننا فلن ينالني منه ما أصبو إليه ، وكل هذا جعلني أتسلل في غمرة الهياج والبحث عن الجمل الذي فيه الذهب، وأهرب به تاركاً الرجال يتقاتلون مستعيناً بالظلام والغبار وسرت قليلاً وظننت أني فزتُ بالمال،لكن أحد أعوان حنظلة وأسمه عدي اعترضني وقد عرف مقصدي وبدلاً من أخفي فعلتي تصرفت بحماقة فصحت به إن الذهب لي وحدي فعلقت به وأصابني في بطني ورأيت أخي يأتي مسرعاً، وقد فهم ماحدث فأنضم إليَّ والتحم مع الرجل في مبارزة وأمرني أن أهرب بالجمل وهربت ممسكاً بجرحي ممتطياً ظهر الجمل وكنت أعرف موضع القارب فتحاملت على جرحي وعالجت الجمل حتى برك في جوف القارب وقطعت به النهر وهذا ما زاد من آلامي ثم أنهضت الجمل وركبت عليه، لكني بدأتُ أفقد رشدي فسقطتُ من على ظهره، وغاب عقلي حتى جئتني رأنت
الفصل الرابععند سماع القصة تأكد لغياث بن عبد المغيث صدق توقعه، وأن الذهب ليس غنيمة باردة بل هناك فئتان تصطرعان عليه مروان وشقيقه وحنظلة ومن تبقى من رفاقه
وقرر في نفسه أنه يجب المسارعة بالرحيل فلابد أن القوم سيقتفون أثر مروان ويأتون إلى هنا فيجب أخذ الخرج والسباحة إلى الضفة الثانية من النهر،ثم ركوب الجمل والهروب وفكر كيفية قطع النهر سباحة والخرج ثقيل وليس هناك قارب غير ذلك القارب المعطوب الذي ربما أستقر في المياه الأن وأهتدى إلى طريقه وأعتزم تنفيذها سيفرغ قربة الماء ثم يملأها بالهواء ويربطها إلى خرج الذهب، ويسهل بذلك جذبها معه خلال السباحة
ودبت فيه الحيوية، وقام لتنفيذ فكرته والمسارعه بالهروب00لكن ذلك أصبح مجرد أمنية، فقد تناهى إلى سمعه صوت فرس راكض فخرج ليتحقق من الصوت فرأى فارساً طويلاً بسيف طويل ينهب الأرض باتجاه البيت فعاد إلى الداخل وهتف بمروان:
-لقد قدم أحدهم
فصاح مروان برعب:
-لقد عرفوا مخبأي إنه الموت!!
وتعاقبت على وجهه الألوان وأيقن بالهلاك ولما رأى غياث تغيُّر سحنته طمأنه وقال بنبرة صادقة:
-لن يصلوا إليك وأنا هنا فأنا لست جباناً ولا خائناً
وكل الذي تمناه في هذه اللحظة لو أنه سارع مع مروان بالرحيل ولم يتلكأ وأسر في نفسه الندامة لم يكن من طبيعته الجبن لكنه أراد أن يتجنب قتالاً هو في غنى عنه
وفتح أحد الصناديق وأخذ أجود الحراب الموجودة وأختبأ خلف الباب، وسمع الفارس يترجل عن فرسه ويربطها في الجهة الخلفية من النخيل ويتقدم إلى الباب،وتوقع غياث أن يجهز على مروان ساعة دخوله لكنه بخلاف ذلك أنكب عليه بلهفة يتحسسه ويقول مبتهجاً:
-مروان!! هل أنت حي؟!
وصاح مروان مدهوشاً:
-سعيد أخي!؟
-كيف جرحك؟
-على شر حال!
-لقد تسرعت فيما فعلت ولو أخبرتني بنيتك لأخذتُ أهبتي ولما جرحت
-لقد طرأت علي الفكرة فجأة، فسارعت إلى تنفيذها!
-هل تألمت من الطعنه كثيراً؟
-لقد تمنيت الموت من شدة ما وجدت!
وبرفق أخذ الفارس يد أخيه ورفعها عن بطنه ، ولم يرَ غياث تعابير وجهه لأنه كان ملقياً إليه بظهره لكنه سمعه يقول متكدراً:
-إنه جرح كبير!!
ثم رد يده إلى مكانها وقال يطمئنه:
-ستشفى وتنجو
-أشك في النجاة لقد سال من دمي الشيء الكثير لكن قل لي كيف تركت الرجال؟
-لقد قُتل ذاهب المقدسي تعمَّد حنظلة قتله بسيفه
-إنه لئيم وحقود
-وقتل جميع رجاله ومات منا أربعة أما أنا فقد قتلت عدي الذي أعترضك،وسلبته فرسه وهربت إليك لقد علمت أنك ستكون هنا وتأكدت من ذلك عندما رأيت ضوء النار من نافذة الحجرة لكن البقية علموا بما فعلت من الهروب بالأموال،وعلموا أني أنضممت إليك وهم في أثري الأن ويلزمهم بعض الوقت ليصلوا إلى هنا فهيا سأحملك وسأردفك على الفرس ولنسارع بالنجاة بما غنمنا فلا طاقة لنا بهم
وسكت برهة يلتقط أنفاسه ثم سأل مروان بلهفة:
-أين الذهب والجمل؟
فأجابه مروان يشير إلى ذقنه إلى غياث الذي برز من مخبأه:
-لقد استولى عليه هذا الفتى !
وقفز سعيد كالملدوغ لدن سماعه بوجود شخص آخر في الغرفة وأستل سيفه وواجه غياث
كان طويلا نحيلاً وكان أصغر من مروان بكثير وأكثر وحشية وحذراً وهتف في خشونة:
-كيف تسلب أخي ماله وهو جريح عاجز؟
وقبل أن يقول غياث شيئاً صاح مروان:
-دعه ياسعيد لقد أخبرته بكل شيء مقابل أن يرجع الأموال، ويساعدنا ويأخذ بعض الذهب مكافأة له
فنهره سعيد محنقاً وقال:
-ما زلت على غبائك يامروان!
ووجه كلامه إلى غياث:
-أين الأموال؟
فرد غياث ببرود:
-هي أموال أُغتصبت مرتين فما الذي يمنعها أن تؤخذ مرة ؟
-إذاً فأنت تطلب القتال؟
-كما تشاء
وهجم سعيد على غياث الذي كاد ينخسه بطرف حربته لكن سعيد كان أسرع فأطارها من يده بجنب سيفه، فدهش غياث لهذه المهارة، وقفز إلى ركن الحجرة،والتقط جذعاً قصيراً ومتيناً وواجه به سعيد الذي قال:
-إنك لا تعرف سعيد حتى تواجهه بخشبة؟!
-وأنت لا تعرف غياث حتى تتحداه!؟
وهجم سعيد على غياث وأهوى بسيفه عليه،فتدرع غياث بالغصن فعلق السيف به
وفيما حاول سعيد أنتزاع سيفه ركله غياث برجله في خاصرته بشَّدة فسقط يتلوى ألماً
وأخذ غياث السيف وبرك على صدره كالجمل، لكنه لم يتمكن منه لأن سعيد قبض على معصميه وضغط عليهما بقوة رهيبة حتى أكتستا لوناً أزرق فأسقط غياث السيف رغماً عنه، فحاول سعيد إلتقاطه وهو يمسك بغياث لكن يد مروان كانت أسرع فأخذ السيف وصاح به سعيد:
-دعني أقتله!
فقال مروان:
-إن له عليَّ معروفاً فقد أنقذني وعبر بي النهر ولولاه لكنت ميتاً الآن
وتنازعت خواطر مضطربة فؤاد سعيد، بين ترك غياث لإحسانه أو الإجهاز عليه لكن نزعة الشر غلبته، فهتف بمروان وهو يص على أسنانه:
-أعطني السيف فلا مكان هنا إلا للقتال والغلبة وهو الذي طلب ذلك؟
فقال مروان:
-إذا قتلته ضاع منا المال إلى الأبد،فقد أخفاه في مكان لا يعرفه إلا هو
ولما رأى غياث هذا الجدل حول حياته أخذته الأنفة فتناهض من تحت خصمه ثم قبض عليه من ثيابه ووقف وقد رفعه عالياً حتى لامس ظهره سقف الحجرة المنخفض وصاح:
-لست في حاجة إلى رحمتك ولا رحمة أخيك!
ثم قذف به إلى الأرض في سقطة عظيمه صرخ منها سعيد وهنا وقف مروان على ركبتيه على غير عادته وهو يطل من النافذة الصغيرة، وهتف في وجل عظيم:
-كفى عراكاً لقد جاءوا حنظلة ورفاقه!
الفصل الخامس التصق الشابان عند النافذة كأنما نسيا عداوتهما وأمعنا النظر في الظلام ليريا خمسة أشخاص على خيولهم وهم يسرعون تجاه النخيل والبيت الصغير، وقد أثارت أقدام الخيول خلفهم سحابةً من الغبار والتقت أعين الثلاثة في وجوم وقال مروان:
-لقد تأخرنا في الهرب، فلنتفق أيها الفتى لحين النجاة من هؤلاء وإلا هلكنا جميعاً!
وقال سعيد في خشونة:
-نتضافر لقتالهم ثم نسوي ما بيننا فيما بعد
فقال غياث بشجاعة وبلا تردد:
-قبلت
وقد قبل على الفور هاذا الإقتراح،لأنه من الخير له أن يجابه سعيد لوحده أو برفقة شقيقه على أن يحاول الفرار بالذهب ثم يجابه مطاردة هؤلاء كلهم ورأى أن من الصواب أن يقضي على اللصوص بمعاونة سعيد ثم يقضي على سعيد فيما بعد وحدث نفسه أنه لن يواصل القتال بل سيهرب إذا سنحت له فرصة آمنة،وإذا سلم جسده من طعنات اللصوص!
واقترب الرجال، ونزلوا عن خيولهم ماعدا واحد لم يرَ غياث وجهه بسبب الضلام ولكنه متأكد من أنه حنظلة زعيم هؤلاء الفتاك، لأن شارات السيادة والسيطرة تفيض من حركاته وتصرفاته وخضوع جماعته له
وسأل سعيد بغيض مكظوم:
-أين وضعت الأموال؟
فرد غياث بفضاضة:
لا شأن لك -
وسارع مروان يقول لأخيه: لقد عبرت النهر بالجمل على ظهر القارب، وسقطت قريباً من الضفة الأخرى حتى جاء وأنقذني ثم آثرت الإحتماء بالبيت والرجوع،فرجعنا بعدما أنزلنا الخرجين اللذين فيهما الذهب إلى القارب وكاد القارب يغرق بنا فقذف هو بأحد الخرجين لتخفيف حمل القارب، وقد كان يحسبه بعض المتاع أما الخرج الثاني فقد أستولى عليه وأخفاه
وهنا برقت عينا سعيد الشريرتين وسأل غياث:
في أي موضع من النهر أسقطت الذهب؟
فأجاب غياث بهدوء وعبوس:
-لا شأن لك
فتركه وسأل مروان عن الموضع فقال:
-لا أدري كنت محموماً وكنت مستلقياً في القارب ولا أرى غير السماء
وسكت سعيد على مضض وأخذ غياث الحربة وأعطى مروان قوساً وسهماً،وهو يشك في قدرته على إستخدامهابينما أستعد سعيد بالسيف وسمعوا أحد اللصوص يقول:
-سعيد هنا وهذه هي الفرس التي هرب بها
وصاح الرجل الذي لم ينزل عن فرسه يخاطب سعيد:
-أخرج ياسعيد فإن شئتما أعطيتماني الذهب وتركت لكما أرواحكما
وألتفت غياث إلى مروان قائلاً:
-كيف عرفوا أنكما تختبئان هنا؟ فقال مروان:
-هذا مكان قديم لنا كنا نجتمع فيه
وصاخ الرجل ثانية:
-ألا تسمع!!أخرج قلت لك!
وتمتم سعيد:
-هذا حنظلة إنه غاضب للغاية!
وسأله غياث مستفزاً:
-هل تخاف منه؟
-قَّبحك الله وأياه إنه لا يساوي أظفري!
-هل هو مرعب؟فأنت تبدو مرعوباَ؟!
أصمت!-
-أنت من يصمت فأنا لست عبداً لك!
ورد سعيد عليه بلطمة قوية كافأه غياث بأشد منها وكادا يقتتلان ثانية لولا تدخل مروان:
وعاد حنظلة يصيح بغضب:
-سيحل عليك غضبي يا سعيد إنك رجلٌ واحدٌ ونحن خمسة فلا تورد نفسك موارد الهلاك لقد خنت ماأتفقنا عليه وقتلتَ أحدَ رجالي، وساعدت هذا الأحمق!
إلتوت شفتا مروان حقداً عندما سمع حنظلة يشتمه
وسكت حنظلة ليسمع جواباً،فلم يسمع سوى هدير النهر فأستشاط غضباً وترجل عن حصانه وعاد يصرخ بنفس غضبه:
-أخرج أعرف أنك هنا لقد توقعت أن تجيء إلى هذا الجحر
ولم يتمالك مروان نفسه فرفع صوته مستكبراً على عجزه:
-ارجع ورائك ياحنظلة إنه الموت!
ورغم الأخطار فقد أبتسم غياث من تهديد مروان وهو لا يكاد يقف على قدميه!
بينما قال حنظلة ساخراً:
-هذا صوت مروان!!بطن مثقوب ولسان طويل!القتل لمن خان أصحابه تقدموا وأئتوني بهذا الشقي
وشهر اثنان من رجاله سيفيهما وتقدما ناحية الباب
لم يسيرا غير القليل حتى ذهل الصوصُ جميعاً،فقد أنتقلت حربة من نافذة الغرفة الصغيرة لتستقر في فخذ أحد الرجلين فصرخ صرخة مكتومة وسقط على ظهره يتلوى من الألم،والحربة الطويلة مرتكزة في فخذه كالعلم وصاح صاحبه:
-لقد أُصيب زليط!!
ثم جعل يجره بابطيه مبتعداً به وقاس الصوص المسافة بين الرجل والنافذة فكانت بعيدة تدل بوضوح على رامٍ ماهر!مما حدا بأحدهم أن يهتف مدهوشاً:
-أهلكني الله إن لم يكن في الغرفة غير مروان وأخاه!!
ورد عليه الآخر:
-صدقت فمروان جريح وسعيد لا يجيد غير السيف!
ولم يخُف سعيد إعجابه فقال لغياث بعبوس:
-إنك رامي حاذق ياغلام لقد أفزعتهم!
فقال غياث:
-لو شئت لو وضعتها بين نهديه ولكني لا أحب القتل!
فقال سعيد بحنق:
-يجب أن تحب القتل وإلا فماذا ستفعل إذا دخلوا علينا بعد قليل!؟
-إذا وقع ذلك فسأعرف ماذا أفعل
ترجع اللصوصُ بعيداً عن الحجرة يتشاورون ويعالجون رجل صاحبهم لقد حسبوا أن البيت الصغير مملوءٌ بالرجال ثم جلسوا على الأرض في شيء من الحذر والترقب وقال سعيد وقد طمأنه وجود هذا الشاب الماهر بجانبه:
-إنهم ينتظرون الصباح سيرون منَّا مالا يسرهم
مضدت مدة، وأفرغ غياث في جوفه قليلاً من الماء، ونظر إلى مروان الذي أستند إلى الجدار ومد رجليه وقد سطعت في عينيه نظرة العجز والحيرة فأقترب منه ورفع القربة إلى فمه فأنتزعها مروان بخشونة من يده وهو يقول:
-سأشرب بنفسي فلست مقعداً ولا عاجزاً كما تظن!
وأبتسم غياث من أحد جانبي فمه فيما أضاف مروان وهو يمسح الماء عن لحيته!
-لاتبدو شريراً يافتى!؟
-ولِمَ البخل ببعض الماء والموت يحيط بك والرجال يطلبون دمك؟
-يطلبون دمي!!لم يبقَ لهم إلا القليل منه!
-لا أظن ذلك فإن العافية قد بدأت تسير فيك دعني أرى الجرح
وبرفق رفع يد مروان عن الجرح،وشق الثوب من فوقه ثم مسحه بخرقة وبعض الماء وأزل الدماء المتيَّبسة حوله كان جلد بطنه مشقوقاَ بطول الكف وكان محاطاً بالزرقة وتأمله غياث ثم قال بسرور حقيقي:
-الطعنة التي أصابتك على جلد البطن ولم تنفذ إلى الأحشاء!
ولو أسرعت إلى الطبيب وخاط بطنك لنجوت
فقال مروان بيأس:
-الطبيب!! وأين الطبيب وأنا في هذا الموضع؟!
وأطرق غياث برأسه إلى الأرض متأملاً ثم قال لسعيد:
-هل تظن أن يسمحوا له بالرحيل؟
-كيف يسمحوا له أن يرحل سالماً،وقد قتلت أنا صاحبهم وجرحت أنت الأخر؟
-حتى ولو أعطيناهم بعض الذهب؟
-ويلك لن ينالوا منه قطعة واحدة
-حتى ولو كان في ذلك هلاك اخيك؟!
وأحس سعيد أن غياث أراد أن يفضحه فسكت وقد طوى نفسه على حقد مكتوم وبعد مدة أطل غياث من النافذة الصغيرة، وخشي إنبلاج الصباح ففكر ملياً ثم قال لمروان مبهوجاً:
-لقد وجدت طريقةً لإخراجك من هنا سنثقب جدار الحجرة الثانية من الخلف ثم تتسلل من الثقب بهدوء وتركب فرس سعيد وتهرب
-وكيف أهرب وهم يتربصون أمام النافذة والباب؟
إنهم أمام النافذة والباب لكن الجهة الخلفية للبيت لا يرونها فالنخيل يسترها وهي التي تقف خلفها الفرس وسيساعدك الظلام في الهروب
-أخشى أن تفشل خطتك فيدركونني ويقتلونني ؟
-ذلك خير لك من البقاء هنا وعليك المحاولة فإما أن تنجح وتهرب وإما أن يجتزَّوا عنقك بسيوفهم
بدون أن ينتظر موافقة أحد شرع في نقب الجدار بأحد الرماح وسعيد يراقب اللصوص
ولما قارب الضياء على الإنبلاج كانت الثغرة قد أُنجزت وربط غياث بطن مروان وشدَّه وأعطاه قليلاً من الماء وقال له:
-هل تستطيع ركوب الخيل؟
-لا أدري
-إذا ركبت حاول أن تتماسك، وتتحامل على جرحك كي لا تقع
سأحاولُ
وأخرج غياث السيف القديم من الصندوق وأمسك الحربة في يده،وبدأ الأستعداد لتهريب مروان من البيت لكن ما وقع لم يكن في الحُسبان،فقد عمد رفاق حنظلة إلى العريش الصغير وأشعلوا فيه النار من أجل أن تحاصر اللذين بداخل الحجرة وتضطرهم للخروج وأرتفعت ألسنة اللهب وأضاء لها المكان، وعلقت النار في باب الحجرة المتداعي ثم أشتعلت في السقف كادت الحرارة والدخان تخنقهم،وهتف مروان كاظماً صوته حتى لا يسمعه اللصوص:
-ساعدوني على الخروج وإلا أحترقت!
ثم زحف وأدخل رأسه في النقب ودفعه غياث إلى الخارج وتابعه وهو يمشي راكعاً يتخفى عن أعين مراقبيه وكي لاتشتد عليه آلامه ورآه يصل إلى الفرس المربوطة التي كانت تصهل وتحمحم،وقد أهاجتها رؤية النيران،ثم ركب بعد محاولات مضطربة ممسكاً بطنه وأنطلق مبتعداً وشك غياث في بقائه المدة الكافية ليصل إلى بغداد
ألتجاء غياث وسعيد إلى الحجرة الثانية هرباً من الحرارة، بينما أقتحم أربعة من اللصوص الحجرة الأولى المشتعلة وكان أجرأهم زليط الذي تقدم وهو يعرج رابطاً فخذه بلفافة وقد لاحت في عينيه شهوة الإنتقام وبرز لهم سعيد وغياث وتشيَّم غياث أن يقاتل صاحب اللفافة لعاهته فتركه لسعيد الذي قضى عليه في لحظات وتراجع غياث قليلاً وشدَّ أصابعه على الحربة ثم قذفها بعنف لتستقر في جوف أحد الثلاثة وتصرعه ثم تقدم بالسيف القديم، ونشب بين الرجال قتال ضار زاده عنفاً ذاك اللهب الذي عمَّ أجزاء السقف وأصبح يتساقط عليهم من الأعلى،وتحامل غياث على صاحبه فصرعه وبقي سعيد ملنحماً بآخر الرجال وتساءل غياث عن حنظلة
كانت صرة ثيابه في زاوية الحجرة الثانية، وتحتها خرج الذهب مواراً بالتراب وقاس غياث بعينيه بين الباب وبين كنزه المدفون،وكانت عينا سعيد تحاصره وهو يصارع خصمه على الأرض وبسرعة أنتزع غياث ثيابه وولىَّ هارباً إلى الباب،لكن جزءاً من السقف إنهار وسدَّ الباب وصاح سعيد بالرجل الذي كان يعتليه:
-الأموال!!إنه يهرب بالأموال!
وظنها الرجل خدعة فلم يتركه، وتصاعد الغبار والدخان ولم يعد أحد يرى شيئاً،وأنطلق غياث إلى حيث النقب وخرج منه وهو يتنفس الهواء النقي ويتمنى أن تطول معركة الرجلين ومضى إلى أحد الخيول التي كانت ترعى الحشائش على حواف النهر وقد تفرقت بعد مقتل أصحابها وركب أحدها في عجلةٍ وهو يتلفت حذراً باحثاً عن الرجل الخامس
الفصل السادس ثم أنطلق وبانت تباشير الفجر الأولى إلى المدينة الكبيرة إلى بغداد عاصمة الخلافة جامعة أشتات البشر الفرق شاسع بينها وبين الممرة هنا يسهل الإكتساب والعمل الملتوي بطمأنينة مئات الآلاف من الناس تروح وتغدو وقد استقبلت المدينة الواسعة غياث بن عبد المغيث بغير الإستقبال الأوول،فقد جاء الآن تاجراً ثرياً رفيع القدر ولم يجيء ليجلد ويسجن!
لدى وصوله كان أول شيء فعله هو الإتجاه إلى سوق البزازين وأصحاب القماش وأشترى حلة ثمينة وعمامة ضافية وجبة وسراويل فاخرة،وتنكر بزي تاجر،وأستأجر داراً صغيرة حصينة وأخفى كنزه فيها ،وأشترى طعاماً وأكل بشهية عارمة كان فائق الحيوية والبهجة سعيداً بالنصر الذي أحرزه مسروراً بهذه الثروة التي آلت إليه،بعدما قتل في سبيلها ملا يقل عن سبعة وعشرين رجلاً!!
خرج إلى الأسواق والأماكن العامة وكان يجلس في مواضع قصَّية،يتفرس في وجوه الغادين والرائحين،يلمح وجه مروان أو سعيد أو ذلك الذي كان يقاتله في الغرفة عندما هرب وتمنى لو يعرف عن حنظلة شيئاً وهل هو الذي أختفى أم كان ضمن الذين قتلوا داخل الحجرة؟ إن الذي بقى حياً من هؤلاء الأربعة حتماً سيأتي إلى بغداد ولكن من الصعوبة إيجاده في مدينة كبيرة كبغداد تحوي العديد من الأجناس!
الصراع لم ينته بعد وإن من بقي من الرجال سيجدّون في طلبه لا محالة فلابد من تصفيتهم جميعاً بأي طريقة وكان أكثر ما يهمه سعيد وحنظلة،فهما أوفر شراسة وخطرهما أكبر وقد سرَّه أنهما على غير وفاق، وأن العداوة مستحكمة بينهما أما مروان فلم يكن يخشاه كثيراً لضعف رأيه ولأن كسب جانبه سهل وقليل من المال يكفي لشراء سكوته
وطال إنتظاره، ولم يظفر بمن يبحث عنهم وأنتظر اليوم الثاني فلم يرَ أياً من الأربعة وأمضى أسبوعاً ثم ثانياً وهو يتردد على الأماكن التي يتوقع أن يراهم فيها، وحدثته نفسه أن مروان وسعيد ربما هلكا ولكن أين الآخرين؟ ودب اليأس إلى قلبه وكان يقطع وقته بتسليته الوحيدة إحتساء الخمور
وتاقت نفسه إلى العمل وتحريك غنيمته الضخمة فذهب يبحث عن سماسرة العقار والضياع يسأل عن البساتين والمزارع وبعد أن طاف على العديد منهم وقف على أحدهم وسأله عن بستانٍ يشتريه فأجابه الرجل:
-ليس عندي غير شوكة!
وماهي الشوكة؟
-نخيل وبستان مهمل أصحابه متنازعون متفرقون وقد أوكلوا إليَّ بيعه
-إن كان في داخل بغداد فلا حاجة لي به
-لا بل خارجها على مسيرة ساعتين من موضع قدميك
-وهل هو واسع؟
-نعم هل تحب أن تراه؟
-نعم
-إذاً تعال إليَّ غداً
-بل الآن!
وصاح السمسار منادياً على خادم اسمه سريع فحضر عبدٌ أسود كهل بلحية بيضاء كرغوة اللبن وخيل إلى غياث أنه معتوه أو أصمَّ لأنه لم يتكلم ولم ينظر إليه،ولا إلى سيده وكانت عليه جبةٌ مرقعة وطاقية غليظة وحذائين باليين
وقال له سيده:
- إذهب بهذا الرجل وأره شوكة
ومضى غياث مع الخادم وحاول إستدراجه إلى الكلام فلم يظفر بشيء، وسار ساعة حتى خرج عن المدينة وسار ساعة أخرى حتى وصل إلى بساتين عديدة متجاورة، وما خلفها كان أرضاً جرداء، وفي بقعة معزولة قريباً من النهر توقف سريع عند بستان كبير بحيطان متينة لايجاوره شيء وكان فيه كثير من النخل أما أكثره فمساحات جرداء واسعة قد نبت فيها الشوك، وفي جزء منه قام قصر صغير فخم البناء، يحتاج إلى شيء من العناية وقد سحبت إلى البستان قناة من نهردجلة، وفي أقصاه قامت مساكن صغيرة كانت تستخدم لسكن العبيد والفلاحين وأعتزم غياث شراءه لإنعزاله وسعته ووجود ذلك القصر فيه ورجع إلى بغداد مع مرافقة الصامت وأشترى البستان بلا تردد
وقال للسمسار:
- وأريد مع البستان شراء خادمك هذا!
ودهش السمسار لهذا الطلب الذي بدا له غريباً وقال:
-تقصد سريع؟
-نعم
-إنه شيخ بطيء ليس له في السرعة إلا اسمه!
-هل يكتب؟
-إنه يكتب وقد جعلته على دفاتري وحسابي لولا أمانته ما أبقيته عندي!
-هل يجيد الزرع؟
-نعم إنه يعرف شؤون البساتين ولكن كما قلت لك إنه بطيء ولولا البغلة التي تحته ما وصلت البستان إلا في الليل!
-لقد أعجبني صمته وقلة فضوله وأنا أرغب فيه
وأنضم سريع إلى كنف سيده الجديد،واشترى غياث مزيداً من الموالي ووجههم إلى البستان لإصلاحه، وعاد إلى المراقبة وكان يسلك الطرق المهجورة مطأطيء الرأس، متلثماً بطرف عمامته
وذات يوم كان عائداً قبيل المغرب إلى داره وعندما دخلها أغلق الباب ووضع عمامته وتخفف من بعض ثيابه وكان السيف لا يفارقه في ذهابه وإيابه ولا عند نومه وما كاد يجلس حتى برز له في إحدى الغرف رجل يكرهه فوضع يده على السيف وهتف عابساً:
-سعيد؟!
-نعم لقد إلتقينا مرة ثانية
ودهش غياث لحالة سعيد كانت ذراعه اليسرى مشوهة قد أتت النار عليها وكانت ثيابه ممزقة في بعض أطرافها وخاطبه غياث في خشونة:
-ظننتك هلكت!؟
-لا لم أهلك بعد لم يحن أجلي لذا فأنت تراني أمامك!
-ما الذي جاء بك إلى هنا؟
-جئت لزيارتك والسلام عليك
-الزائر يقرع الباب ولا يتسلق الأسوار!
-استقبالك خشن ياغياث!
-هذا ما يليق بلص مثلك
-وأنت ألست لصاً؟!
-وأين مروان؟
-هل يهمك أمره؟
-نعم إن أمره يهمني
وجلس سعيد على دكة قريبة منه ومد رجليه بلا مبالاة وقال:
-لست أدري عن مروان شيئاً ربما قتله حنظلة!
-ألم يقتل حنظلة فيمن قتل؟
-لا إنه لا يقحم نفسه في الأخطار إلا بالحذر ولقد لحق بمروان عندما هرب ظناً منه أن الذهب في حوزته
- لا أظنه سينجو فقد ركب الخيل وهو يترنَّح
-إنه صبور كالجمال لكنه لا يحسن التصرف
-يبدو إلي أنه أقل شرساً منك ؟
-إنه أحمق ولولاه لما تعرضنا لهذا القتال بيننا!
فأكد غياث على ما قال:
-لكنه لا يبدو شريراً متمرساً مثلك؟
وهنا قضم سعيد شفته السفلى وقال في مكر:
-أنا ضيف عليك ياغياث ولا يحق لك شتيمتي بهذا الشكل !
فأجابه غياث في جفاء:
-لكنني لم أدعوك ولم أرحب بك
-لا يهمني هذا فقد لمحتك في السوق وتتبعتك حتى عرفت أنك تقيم هنا
وأدار رأسه في الجدران والسقوف ثم أرعب غياث بنظرة حادة وقال:
-أنت فتى شجاع ياغياث ولو تضافرت جهودنا لأستفدنا كثيراً
وأدرك غياث مايرمي إليه سعيد فقال:
-لاتحلم بمثل هذه الأمور فقد حصلت على مايكفيني ولا أظنني بحاجة إلى المزيد من التعب والمخاطرة
عندها هتف سعيد بحدة وغيظ:
- وأنا وشقيقي أين تذهب أتعابنا وجروحنا ؟!
- تقصد الذهب؟
- وما الذي جاء بي إليك إلا طلب الذهب !!
فقال غياث ببرود تام!
-لقد سبق أن قلت لك أن الذهب سرق للمرة الثالثة!
-أنت تثير غضبي بكلامك هذا
- هذا شيء أمره إليك وحدك
تحلب ريق سعيد في فمه،وكدر ملامحه غيظ مكظوم،فقام من مجلسه وما أن تحرك أستل غياث سيفه فقال سعيد بدون أن ينظر إليه:
-هوِّن عليك ما جئت لهذا لو كنت أريد قتلك لأختبأت لك خلف الباب وقتلتك ساعة دخولك!
فهتف غياث:
-لا تتحرك من مكانك
وبدون أن يأبه له تقدم سعيد إلى موضع الماء وقال:
-أريد أن أشرب وأغتسل لقد جئت أعرض عليك الصلح
وتنحى غياث عنه في حذر فيما تقدم سعيد وغسل وجهه وشرب،ثم قال وهو يمسح وجهه بكمه القذر:
-أنت شديد الحذر وتخاف كثيراً
-لا شأن لك بهذا قل لمذا جئت؟
- لقد جئت لأقول لك إنه لم يبقَ إلا أنا وأنت وحنظلة ومروان إن كان حياً وأنا أعرض عليك إن شئت السلامة أن يكون لك ماحصلت عليه من الأموال، وتدلني على موضع الخرج الذي أسقطته في النهر وأما حنظلة فهو لا يعرفك ولم يرك ولا تعرفه ولم ترَ وجهه فإذا ظهر فإنما سيطلبني أنا ومروان وتكون بذلك قد أمنت جانبه وكفيت شرَّه
وسكت سعيد ينتظر جواب غياث فتأمله غياث فرآه أصفر الوجه متعباً وكان يتكلم بثقة ويأس وتأكد لغياث أنه مقدم على تنفيذ مايريد ولو كان في ذلك حتفه ولكنه لم يصمد لأن شارات الإرهاق بادية عليه مما أغرى غياث أن يتحداه ويسأله بلا مبالاة!
-وإذا رفضت؟
فصاح سعيد وقد أستل نصف سيفه من غمده!
-إذا رفضت فهذا سيقنعك!
فقال غياث بهدوء وتحدي!
-إني أرفض
عند ذلك رمى سعيد قدح الماء من يده وأستل سيفه بسرعة وانقض كل منهما على صاحبه،والتحما في قتال مرير كان صوت تقارع السيوف يغطي على الكلمات المبهمة التي يقولانها والشتائم التي يتبادلانها
أستمر صراعهما طويلا
[size=18][color=green]ا